ستكونين كل شيء لهذه العائلة
منذ انتقلت الى لبنان وتتملكني الرغبة في أن أتعلّم كل شيء: شاركت في دورة تمريض، ودورة تصفيف شعر، ثم انضممت الى دورة التطريز الخ. الأمر كان مختلفاً عندما كنت في دوما. هناك كنت ربة منزلٍ فقط. عمري ثلاثة وثلاثون عاماً وأنا أم لخمسة أولاد.
تعذبت كثيراً لدى وصولي الى لبنان. لم يرض أحد أن يؤجرنا غرفة أو أن يسكننا في بيت. هنالك خوف واستغلال: اللبنانيون كانوا يخافون من السوريين. سمعت الكثير من الكلام الجارح وكان صاحب إحدى البيوت يسمعني كلاماً ويسعى للتحرش بي. تم تهديدي وتعرضت للضرب أكثر من مرة. هددني أحدهم أنه سيسجن زوجي ووصلنا الى مرحلة لم نعد نتمكن فيه من دفع أجار البيت. ندمت كثيراً أنني هربت من الموت لأتعرض لمواقف مماثلة وأمامي خمسة أطفال وجب إطعامهم. لم أعد أحتمل هذا الوضع فإنتقلت للسكن في مخيم الرحمة. وجدته أكثر أمناً من السكن في البيوت. الناس هناك مثلي مثلهم، نتشارك الفقر ذاته.
عندما تمّ الإعلان عبر مكبرات الصوت عن دورة محو الأمية تسجلت فيها. أردت أن أبني صداقات وأن أتعرف على من معي في المخيم. من كل حرف نتعلمه، كنا نحكي قصة وكانت القصة مؤثرة جداً مما استدعى القيام بورشة كتابة لاحقاً مع الكاتبة إيمان سعيد. تم انتقاء ٢٥ امرأة للمشاركة في ورشة الكتابة. داخل كل منا، كان هنالك جعبة من الحكايا. بدأنا نكتب وتلقينا الكثير من الدعم والتوجيه من إيمان. ثم قمنا بورشة رسم وفي النهاية قمنا بتأليف كتابٍ جماعي. سميناه “بلكون الورد” وهو عنوان لإحدى القصص التي كتبتها خلال الورشة. صدر لي في الكتاب أربعة قصص: الأم، رنة وجع، العبور وبلكون الورد.
في حكاية بلكون الورد تحدثت عن بيتي الذي تركته وعن الشرفة التي كانت مليئة بالورود. عندما عدت الى منزلي، لم أجد حتى حيطان الشرفة. وفي قصة الأم، نقلت ما رأيته في أحد أيام الحصار. حين قامت أم بحماية أطفالها الستة من القذائف المنهمرة فنامت فوقهم في العراء. توفي إبنها ولم تحس. حملت إبنها وباتت تدور فيه ولم تدرك أنه ميت. فقدت كل أولادها. أصيبت بحالة من الهستيريا. القصة الثالثة مختلفة بعض الشيء، تحكي عن مرحلة تعارفنا أنا وزوجي، كيف كنا نلتقي في الخفاء وكيف حارب أهله لأجلي. أنا من الشام وهو من حلب وكانوا يعتبرونني غريبة، في نظرهم ابنة عم زوجي أو أي فتاة من حلب أولى به. بقينا مخطوبين لمدة ثلاث سنوات، وفي ليلةٍ وضحاها، بعد أن لعبوا بعقله ونتيجة ضغوطات كثيرة، اتصل بي زوجي وقال لي على التلفون “أنت طالق، طالق، طالق”. حينها غبت عن الوعي، دخلت المستشفى. بعد ثلاثة أشهر، دق الباب وطلب مني مسامحته لأنه كان يتعرض للكثير من الضغوط العائلية. حينها، أعطوه أهلي مهلة أن يتمّ العرس بعد شهر واحد وإن أخل بالمهلة، لا زواج. وهذا ما كان: تزوجنا بعد أقل من شهر.
بعد ورشة الكتابة انتقلنا الى المسرح. أحسسنا أن المسرح قادر على إيصال حكايانا للناس. عندما شاركت في الورشة تعرضت للإنتقاد من قبل البعض: “لديك خمسة أطفال…شو بدك بهالشغلة.. لا عيب…بلد محافظة ما بيصير”. لم أرد عليهم. قلت في نفسي، سنرى من سيحسدني في النهاية. بينما زوجي كان مشجعاً لي. هو أمي لا يجيد القراءة ولا الكتابة. كان يقول لي “على العكس اكتبي واحكي، لربما نحن الرجال لا نجيد أن نعبّر كما تعبرون. لربما تنقلون وجعكم ووجعنا”. العيش في المخيمات كان صعباً كثيراً على الرجال. أحياناً تحدث مداهمات ويأخذون الرجال الذين لا يملكون أوراق أو بطاقات هوية. تحدثنا عن هذا الأمر في المسرحية وعن كثيرٍ من الأفكار الأخرى.
حين قدمنا العرض فوجئ الجميع، لم يتوقعوا أننا سنتحدث بتلك الجرأة. زوجي فخورٌ جداً بي. في المرة الأولى حضرني لوحده. بعد العرض قال لي: “يمكن الله مرضني بس قوّاكي انتي…عطاكي انو تقدري تعيني ولادك.ستكونين كل شيء لهذه العائلة. أنا هلق مأمن عليكي وعلى الولاد اذا صرلي شي”. زوجي مصاب بالصرع وتأتيه نوبات حادةً أحياناً ولم يتمكن من العمل لفترة. في العرض الثاني الذي قمنا به، حضره أولادنا. كانوا يصفقون لي قبل أن يبدأ مشهدي حتى.
تجربة الإنضمام لورشات العمل للأمل، جعلتني قوية. صرت أحب أن أشتغل وأصبح هنالك أمرٌ جميل نتطلع اليه. في لحظة ما فكرنا نحن النساء أن الحياة انتهت. تربص اليأس بنا ولكن الورشات غيرت كل شيء. عندما تتوقف الحصص لسببٍ أو لآخر، ننتظر عودتها بفارع الصبر ونطالب بها بشدة: “انو يللا رجعولنا ورشة جديدة!”
صاحب الحكاية: خلود زهرة
الممارسة الفنية: مسرح/حكي
جمع وتحرير: منى مرعي
الزمان والمكان: ١٩ أيار ٢٠١٩ مدرسة العمل للأمل – بر الياس